تزامنت نهاية يونيو الماضي مع إعلان إغلاق منصة باز وهي واحدة من تطبيقات التواصل الاجتماعي العربية التي امتازت بخاصية الغرف الصوتية، ولعلها واحدة من أكثر المنصات العربية التي صمدت، إذ بدأت في 2016 وحصلت على جولة تمويلية في 2020، ثم توقفت في 2024. ومع هذا الإعلان يتجدد السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا: هل يمكن فعلًا إنشاء منصة تواصل اجتماعي عربية ناجحة؟
منذ شيوع منصات التواصل الاجتماعي العالمية مثل فيسبوك وتويتر وغيرهما، غالبًا ما كان التساؤل عن عدم امتلاكنا منصة تواصل اجتماعي عربية حاضرًا باستمرار، لا سيما في الفترات التي نواجه فيها نحن المستخدمين العرب قيودًا من منصات التواصل الاجتماعي، مثل حذف أو إضعاف الوصول للمنشورات التي تتحدث عن طوفان الأقصى وأحداث فلسطين الحالية.
وبالطبع من الجيد وجود مساحة يمكننا الحديث فيها كما نريد، لكن لا يمكن غض النظر عن طرح سؤال مهم في هذا السياق: هل منصة التواصل الاجتماعي عمل قومي تقوده دولة أم عمل تجاري يقوده أفراد؟ أي ببساطة من سيأخذ الخطوة لبناء هذه المنصة؟
إذا نظرنا إلى المشروعات التكنولوجية سنجد أن تنفيذها غالبًا يتم ضمن تصنيف من اثنين، الأول هو التطوير بقيادة الدولة State-led Innovation، وهنا تنشئ الدولة المشروع نتيجة حاجتها له، ولا يكون هدفها منه تحقيق الأرباح في المقام الأول؛ والثاني هو التطوير بقيادة السوق Market-Base Innovation، وهنا يُنشئ المشروع أفراد وغالبًا ما يكون هدفهم الأساسي هو تحقيق الأرباح.
الواقع يقول، إن منصات التواصل الاجتماعي عمل تجاري يتم تطويره بقيادة السوق، صحيح قد يكون للمنصة أهداف أخرى اجتماعية، وهذا طبيعي لدى المشروعات التجارية، لكن في النهاية هدفها الأكبر هو الربحية لأن هذا ما يمنحها الاستدامة، لذلك توجد نقاط أخرى يجب وضعها في الحسبان لإنشاء منصة ناجحة قادرة على الاستدامة فعلًا.
القيمة المضافة الأساسية لمنصات التواصل الاجتماعي هي تأثير الشبكة، وهو مفهوم يصف كيف تزداد قيمة الخدمة أو المنتج عندما يزيد عدد مستخدميه. مثلًا تخيل وجود تطبيق ما يستخدمه شخص واحد من معارفك، ما المحفز لك لاستخدامه؟ تخيل نفس التطبيق يوجد عليه جميع أصدقائك ومعارفك، بالتأكيد قد تتولد لديك رغبة قوية لاستخدام هذا التطبيق.
وصف تأثير الشبكة - موقع Medium
وهذا يعني أنه كلما زاد عدد الأشخاص الذين يستخدمون المنصة تصبح هذه المنصة أكثر قيمة، وينضم إليها مستخدمون آخرون جدد، وبمرور الوقت يسهل ذلك تسويق المنصة وانتشارها دون الاضطرار لتحمل تكلفة الإعلان عنها كما في البداية.
ويبقى السؤال؛ كيف يمكن جذب المستخدمين إلى المنصة فعلًا؟ بمعنى آخر؛ ما الميزة التنافسية في المنصة التي ستكون مختلفة عن المنصات الكبرى الموجودة حاليًا؟
بالطبع يمكن لأي شخص افتراض أن عربية المنصة كافية لنجاحها وجذب المستخدمين إليها، لكن هذا الافتراض يُخالف التجارب الموجودة على أرض الواقع، إذ يحتاج المستخدم إلى أمور أخرى في المنصة لجذبه، وإلا فإن هذا كان سيكون كافيًا لنجاح منصة باز وغيرها من المنصات العربية الأخرى التي ظهرت خلال السنوات الماضية.
وهذا يعني أنه لا بد من بحث المنصة عن ميزة تنافسية أخرى عن بقية المنصات. لاحظ أنه في تاريخ منصات التواصل الاجتماعي ظهرت عديد من المنصات وفشلت لهذا السبب، فلم تكن لديها ميزة تنافسية حقيقية تقدمها، أما المنصات المستمرة فهي التي نجحت في تقديم ميزة تنافسية حقيقية مختلفة عن البقية ونجحت في الإبقاء على المستخدمين.
قائمة منصات التواصل الاجتماعي عبر التاريخ - موقع Highervisibility
والأمر لا يقتصر فقط على اكتشاف هذه الميزة التنافسية، بل القدرة على تمييز المنصة من خلالها، لا سيما مع ما نراه من تقليد من المنصات الأخرى، وقد رأينا كيف تم تقليد خاصية القصص المميزة لدى سناب شات، وخاصية الغرف الصوتية لدى كلوب هاوس.
بالتالي ستحتاج المنصة العربية للدفاع عن نفسها في مواجهة هذه المحاولات، وضمان أن الميزة التنافسية التي تقدمها تستقطب المستخدمين إليها باستمرار، ولا تجعلهم يعودون للمنصات الأخرى عند تقليد هذه الميزة.
ولنا في كلوب هاوس نموذج على ذلك، إذ حققت المنصة نموًا كبيرًا في بدايتها، وتوقع لها كثيرون مستقبلًا قويًا عندما قدمت ميزة الغرف الصوتية، وجمعت المنصة تمويلًا بقيمة 110 ملايين دولار على جولتين استثماريتين، لكن في النهاية تراجع أداؤها تزامنًا مع تقديم فيسبوك وتويتر خصائص مشابهة.
حسنًا، نجحنا في تحديد الميزة التنافسية لبناء المنصة، ننتقل الآن إلى التشغيل، وله جانبان أولهما التقنية وفي تصوري هذا جانب يقدر المبرمجون العرب على التعامل معه وبناء المنصة بالصورة المطلوبة، أما الثاني فهو الأهم ويتعلق بكيفية عمل المنصة نفسها.
عادةً يقوم نموذج عمل منصات التواصل الاجتماعي على تحقيق الربح من الإعلانات، وكي يعمل هذا النموذج بالكفاءة المطلوبة فلا بد من وجود أعداد كبيرة من المستخدمين أولًا، وإلا فلماذا سيقبل المعلنون على استخدامها؟ لذا، عادة لا تبدأ منصات التواصل الاجتماعي في محاولاتها لتحقيق الأرباح، بل تنتظر حتى تزداد أعداد المستخدمين في المنصة.
المثال الأكبر على ذلك هو فيسبوك الذي بدأ عمله في فبراير 2004، وأتيحت الإعلانات على المنصة بعد ثلاث سنوات في نوفمبر 2007، ولم تصل المنصة إلى الربحية إلّا في مايو 2009 وكان عدد المستخدمين وقتها 300 مليون مستخدم، وخلال هذه الفترة جمعت المنصة تمويلًا تزيد قيمته على مليار دولار.
بالطبع ليس شرطًا تكرار تجربة فيسبوك بالطريقة ذاتها أو بالمدة الزمنية نفسها، لكن من المهم الاستفادة من هذه التجربة لفهم كيفية عمل منصات التواصل الاجتماعي، وأن المنصة ستحتاج إلى جمع تمويلات في البداية لتسهيل تشغيلها، وستحتاج إلى بعض الوقت قبل تفعيل نموذج عمل الإعلانات لتحقيق الإيرادات.
الآن لدينا منصة تعمل فعلًا وترغب في التوسع والنمو، هنا ستواجه تحديين رئيسيين:
بالطبع هذه تحديات يجب وضعها في الحسبان عند التفكير في آليات التوسع والنمو، بحيث تحتاج المنصة إلى حساب دقيق لخطواتها، لأن الربحية وإن كانت متاحة، لكنها ليست بالقدر الذي يتيح للمنصة تحقيق أرباح سريعة، فقد تكون تكلفة الإعلان عليها أقل من منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، وبالتبعية ستستغرق وقتًا حتى تصل إلى الربحية.
على صعيد آخر، تملك هذه المنصات فرصة أن استهدافها سيكون من العرب فقط، وهذا يمنحها القدرة على فهم سلوك المستخدمين بطريقة جيدة، وتوجيه ذلك نحو آلية تصميم الإعلانات، بحيث تضمن تحقيق كفاءة أعلى على مستوى نتائج الاستهداف، وإذا نجحت في فعل ذلك فسيكون بالإمكان تحقيق إيرادات أكبر.
أيضًا عبر التحليل المستمر للبيانات، سيكون بالإمكان تطوير منتجات أخرى مناسبة للجمهور العربي، واحتمالية اكتشاف فرص إضافية لتعزيز مصادر الدخل في المنصة.
أخيرًا، لعل هذا العائق الأكبر الذي سيقف في طريق إنشاء المنصة، وهو أنها في النهاية لكونها عملًا تجاريًا، فهي تخضع لتبعية منظومة سياسية ما تحكم عملها، وهذه المنظومة تؤثر في قرارتها وطريقة إدارتها، والشركة قد تضطر إلى الخضوع لبعض الأمور في النهاية. لنفهم أثر السياق يمكننا إلقاء نظرة على شركة أبل بين أمريكا والصين.
في ديسمبر 2015 مات 14 شخصًا في حادث إطلاق نار، وعثر مكتب التحقيق الفيدرالي FBI على هاتف أحد الاثنين المسؤولين عن الجريمة، وطلبوا مساعدة شركة أبل في فتح الجهاز، وهنا رفضت الشركة تنفيذ الطلب وخرج تيم كوك الرئيس التنفيذي متحدثًا عن ضرورة حماية بيانات المستخدمين، وأنه من الخطأ مساعدة الحكومة في هذا الأمر.
اضطر مكتب التحقيقات لرفع قضية على أبل لإجبارها على تنفيذ طلبها، ولكن في النهاية انسحب المكتب منها عندما أدرك عدم وجود معلومات مفيدة على الجهاز. لكن لماذا لم يقدر المكتب على إجبار أبل لتنفيذ ما أراده؟ ببساطة لأن هناك سياقًا قانونيًا يحكم المسألة ويتيح للشركة التصرف بهذه الطريقة.
عندما يأتي الحديث عن الصين، فإن أبل لا يمكنها التصرف بنفس الطريقة، إذ في 2019 حذفت الشركة تطبيق HKMap Live من متجر التطبيقات، وهو تطبيق استخدمه متظاهرون في هونغ كونغ لتتبع نشاط الشرطة، وعللت أبل أن التطبيق استخدم لأغراض خطأ لإحداث الأذى.
يصف كثيرون موقف أبل هذا بالخضوع لسلطة الدولة الصينية والرقابة التي تفرضها على عمل الشركات عبر جدار الحماية العظيم، وبالتالي لم يكن أمام أبل بديل عن حذف التطبيق، وإلا واجهت عواقب ذلك من الحكومة الصينية التي يمكن أن تؤدي إلى إبعادها عن الصين، وهذا غير مستبعد عنها، فقد حظرت فيسبوك وتويتر بسبب استخدامهما من المتظاهرين سابقًا في 2009.
يوضح هذا المثال أن السياق السياسي يتحكم في إدارة الشركة، فأي شركة تسعى دائمًا للحفاظ على ربحيتها، وتفكر جيدًا في طريقة التصرف المناسبة في التحديات المماثلة، ناهيك أصلًا عن احتمالات المضايقة التي يمكن أن يتعرض لها مؤسس الشركة وفريق عملها.
ولدينا تجربة مشابهة حدثت مع منصة التواصل الاجتماعي VK في روسيا التي أنشأها بافل ديوروف، وكانت توصف بأنها فيسبوك في روسيا لما حققته من نجاحات. في 2011 عندما حدثت احتجاجات ضد بوتين، تلقى بافل طلبًا من السلطة الروسية بإغلاق حسابات بعض المعارضين ولكنه رفض الطلب، مما جعله يتعرض لمضايقات منها محاولة اعتقاله، ولاحقًا محاولة شراء أسهمه في الشركة خلال الشهور التالية.
وفي 2014 حدثت أزمة أوكرانيا، وتكرر الصدام من جديد مع السلطة الروسية، عندما رفض بافل تسليم بيانات بعض المستخدمين، وتعرض مرة أخرى لمضايقات وتضييق على عمله، واختلف مع أصحاب الشركة حتى قرر في النهاية الاستقالة من منصبه والرحيل عن الشركة.
عندما نتحدث عن منصة تواصل اجتماعي عربية، لماذا سيختلف الأمر كثيرًا؟ من المتوقع في النهاية خضوع المنصة لسلطة الدولة التي تعمل بها، وفي أي موقف قد تجد الشركة نفسها موضع تساؤل حول دورها في دعم أحداث معينة، وستتلقى طلبات مشابهة لتقديم بيانات بعض المستخدمين، أي إنه لا يمكنك الاطمئنان لإمكانية الحديث بحرية فعلًا مهما ادعت المنصة عكس ذلك.
هذا ونحن لا نتحدث عن الخلافات بين العرب أنفسهم، فإذا كان ما يزعج المستخدمين من فيسبوك هو انحيازها لوجهة نظر معينة الآن، فبالتأكيد ستكون هذه الاحتمالية قائمة في المنصة العربية، لوجود عديد من الاختلافات والأفكار المنتشرة في الوطن العربي، وقد يشعر بعض الأطراف بانحياز المنصة لجانب بعينه أو الترويج لأفكار محددة بحسب طبيعة الدولة التي تنشأ المنصة فيها.
هنا نعود إلى سؤال المقدمة مرة أخرى: هل يمكن فعلًا إنشاء منصة تواصل اجتماعي عربية وناجحة؟ والإجابة أنه نعم يمكن حدوث ذلك، لكن يتطلب ذلك استيعابًا لأهم النقاط المتحكمة في هذه المسألة كالتالي:
هذه النقاط الخمسة الرئيسة التي تحكم إمكانية نجاح أو فشل منصة التواصل الاجتماعي العربية الخاصة بنا، والتفكير بها بموضوعية وخطط مدروسة تناسب واقعنا الحالي وتفهم أبعاده وسياساته بعيدًا عن الأحلام الوردية، هذا ما قد يساعدنا على الاستيقاظ يومًا ما ونحن نملك منصة تواصل اجتماعي عربية وناجحة، وإلا سيبقى الأمر مجرد سؤال استنكاري أو أمنية بعيدة المنال.
# ريادة أعمال # باز # سوشال ميديا # مواقع التواصل الاجتماعي # فيسبوك # تويتر # كلوب هاوس